تؤكد كلُّ المؤشرات الأميركية أن الولايات المتحدة سوف تنشغل بإنقسام داخلي جدّي أحدثه رئيسها الحالي دونالد ترامب، بشكل يتجاوز السباق التقليدي بين الحزبين "الجمهوري" و"الديمقراطي". إستطاع ترامب أن يفرض نفسه زعيماً لملايين انتخبوه خارج إطار الحزب الذي بات مقسوماً عملياً بين الترامبيين والآخرين. لا أحد يعلم ماذا سيكون مصير الحالة الترامبية: هل تترسّخ أم تزول بمجرد انتهاء ولاية الإدارة الحالية؟ فلننتظر.
أمام المُستجدات في الولايات المتحدة، هناك من يرى أن واشنطن ستنشغل بمعالجة التداعيات السياسية والإجتماعية والإقتصادية، داخلياً، على حساب إهتماماتها التاريخية بمصالحها العابرة للقارات. لكن يُمكن القراءة في التعيينات التي أجراها الرئيس المُنتخب جو بايدن في تأليف فريقه، للحسم بأن إدارته لن تحصر تعاطيها بالداخل الأميركي فحسب، بل هي ستُعيد الفعالية لتحالفاتها الدولية لإحياء العولمة التي تتحكّم بها واشنطن منذ إنهيار الإتحاد السوفياتي وتكريس القطب الأميركي الأوحد لقيادة العالم.
يعيد بايدن معادلة الفريق العامل في الإدارة، مُحاطاً "بالمؤسسة الحاكمة" او "الدولة العميقة" التي تبادلت مع ترامب معارك طاحنة، ولا تزال، بعدما كان الرئيس الحالي سحق معادلة حُكم الفريق الموسّع، معتمداً على شخصه وحده في إتخاذ كل القرارات. كان كبار موظفي البيت الأبيض في السنوات الأربع الماضية يرصدون تغريدات رئيسهم على التويتر لمعرفة توجيهاته وقراراته، في سابقة لم تعتد عليها واشنطن، لكن عودة "الدولة العميقة" مع بايدن تعني أن التوجّهات والسياسات البيضاوية ستكون بحسب مصالح "المؤسسة الحاكمة"، التي تُصنّف نفسها بأنها تعمل لصالح الولايات المتحدة لا من أجل حزب او إدارة.
بمجرد تعيين بايدن لفريقه، تحدّدت معالم سياساته التوسعية غير الإنطوائية. يخشى الروس من محاصرة اندفاعتهم الدولية، ويرتاح الصينيون لإندحار مشروع إلغائهم الذي قاده ترامب بحدّة، وما بينهم يترقّب الإيرانيون مسار مفاوضات آتية، ويقلق الخليجيون والأتراك من مشاكستهم في الإقليم، ويتنفس الأوروبيون بعد إعادة استنهاض الحلف بينهم وبين واشنطن، ويستعد حلف شمال الأطلسي للعب دوره المجمّد منذ سنوات، بعدما افقد ترامب "الناتو" وهجه، بينما يعتبر الإسرائيليون أن السياسات الأميركية ستحمي دولتهم من أي خطر. هنا تفرّق تل أبيب بين حسابات بايدن مع رئيس وزرائها بنيامين نتانياهو وبين المصلحة الإسرائيلية التي لا يقدر أي رئيس أميركي أن يهزّها.
عندما إختار بايدن الدبلوماسي وليم بيرنز لتولي أرفع منصب أمني أميركي، شكّل الإختيار حدثاً، لكن موسكو توقفت أمام تعيين خبير في شؤونها وشؤون الشرق الأوسط تحديداً، مما يعني أن الإهتمام بهذين الإتجاهين هو في صلب عمل إدارة بايدن. وسرت معلومات عن توجه "الدولة العميقة" لإخراج روسيا من سوق الغاز، علماً أن أركان العهد الآتي يعتبرون أن إقتصاد الروس يرتكز على تصدير الغاز الى دول الإتحاد الأوروبي، مما يؤكد النيّة لمحاربة الروس دولياً. هذا ينطبق ايضاً على مصالح روسية في الشرق الأوسط، خصوصاً في سوريا. يُمكن هنا إستحضار ثوابت وزير خارجية بايدن ايضاً ضد موسكو، وهو كان يدعو لتفعيل مواجهة روسيا في سوريا.
سيحاول الطقم الإداري الأميركي الجديد أن يستحضر الاتهامات بشأن تدخلات روسيا "دعماً لترامب منذ اكثر من اربع سنوات، وقرصنتها لمؤسسات أميركية" لتشريع نسف مصالحها.
واذا كانت الصين مستبعدة من الأولويات الأميركية البايدنية، على الأقل بما هو ظاهر، لكن لا يستطيع بايدن تجاهل "أخطار الصين" التي حاول ترامب أن يزرعها في عقول الأميركيين طيلة مدة ولايته. بينما ستتوجّه إدارة البيت الأبيض الجديدة لإحياء ملف التفاوض النووي مع إيران، من دون إتضاح المسار. لكن هل ستفصل "المؤسسة الحاكمة" ملف التفاوض بين واشنطن وطهران عن باقي عناوين الإقليم، و خصوصاً لبنان وسوريا؟.
ستكون حسابات الاميركيين في بيروت مختلفة عن حساباتهم في دمشق، لإعتبارات لها علاقة بالأتراك والروس والسعوديين في سوريا، بينما ينحصر الإهتمام بلبنان بعنوان "صواريخ حزب الله الدقيقة" ومطالب الإسرائيليين. تعرف واشنطن ان ربط ملفات الإقليم كلّها بالتفاوض مع طهران يعني إمكانية إطالة امد التفاوض المعقّد الذي تتداخل به جهات دولية عدة، فهل هي تريد نجاحاً في ملف إيران النووي بتفاوض ينطلق من أرضية تمّ وضعها في عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما؟ اذا صحّ ما تسرّب عن مستشار الامن القومي الجديد سوليفان عن وجوب مشاركة الدول الاقليمية في المفاوضات، فإن ذلك سيعقّد المشهد التفاوضي نتيجة رفض ايراني متوقّع.
تدلّ التعيينات البايدنية أن اركان الادارة المعنيين بأي مواجهة، هم كانوا عملوا في الشرق الاوسط، وتركوا بصمات سلبية: الجنرال لويد اوستن، وزير الدفاع الجديد، كان قائدا للقيادة الوسطى من عام ٢٠١٣ الى ٢٠١٦، وخلال تواجده دخل تنظيم "القاعدة" فرع "جبهة النصرة" الى سوريا، ودخل تنظيم "داعش" الى العراق، وتمت عرقلة عمليات الحشد الشعبي لتحرير الموصل، فإستغرقت تسعة اشهر وبقي منفذ الشمال مفتوحا امام "داعش".
بريت ماكغورك كان ممثلاً للولايات المتحدة في سوريا يدير عملياً القوات المعارضة.
إضافة الى برنز الذي كان نائباً لوزير الخارجية والتقى عام ٢٠١٠ بوفد "الاخوان المسلمين" في واشنطن برئاسة راشد الغنوشي، وتسرب يومها انه جرى اتفاق بين الأميركيين و"الاخوان" لتسلّم الجماعة الحُكم في دول عربية.
بالمحصلة، لا صحة للحديث عن استقرار إقليمي آت بعد بدء المفاوضات الأميركية-الإيرانية، بل إن المؤشرات اعلاه تُظهر ان الساحات ستبقى مشتعلة. فإذا أبقى اللبنانيون رهاناتهم مربوطة بتلك الساحات، سيبقى بلدهم يراوح في الأزمات المتلاحقة.